الثلاثاء، 18 مارس 2008


مجانين المسرح الفلسطيني يغلقون شوارع رام الله بالرقص
زياد خداش
من هم هؤلاء المجانين الذين يرقصون في شارع ركب،؟؟ من أين أتوا فجأة، وكسروا قانون وجه المدينة التي تعودت على مسيرات غاضبة لا يضحك احد فيها ولا يرقص، عبثوا بروتينها وقيلولتها الرتيبة،؟؟ سأتقدم نحوهم وأراهم جيدا، أوه أنهم مجانين المسرح الفلسطيني، اعرف منهم يعقوب اسماعيل وعمر جلاد وحسين نخلة وعادل ترتير وأكرم المالكي وكامل الباشا، ورائد العيسة، إنهم يحملون يافطة كبيرة مكتوب عليها: 27-3 اليوم العالمي للمسرح، الله، يتقافز أمامهم أعضاء فرقة مسرح الشارع البهلوانية، نحن إذن طبيعيون جدا، نحب الحياة والرقص والفنون، ولا نكترث لجنود قد يقتحمون مدينتنا وشوارعنا، أتخيل مجانين المسرح هؤلاء يواجهون الجنود بالرقص والضحك والمشي المتواصل تجاه مركز خليل السكاكيني، أتخيل الجنود وهم يقفون بلهاء ومستغربين:
"لماذا لم يهرب هؤلاء بعيدا كما توقعنا خوفا من رصاصنا؟؟ أين حجارتهم؟؟ أين شعاراتهم؟ أين شهداءهم الجاهزين؟، آه لقد أبطل هؤلاء الماكرين مفعولنا، فنحن لم نخلق لقمع أشخاص يحبون الحياة؟؟.ما لذي يريدونه هؤلاء الغرباء الضاحكين؟؟" أنهم لا يريدون شيئا، فقط هم يفرحون ويصيحون ويمشون، مسيرة فرح ورقص ومشى لا مطالب لها سوى أن يفهم الناس أن ثمة كونا اسمه مسرح يستحق أن نحتفي به، أن هناك كائنات حية تعيش بيننا تحب المسرح، تحب الحياة، وترى فيه طريقة أخرى للنضال والفهم والبناء.
امشي معهم، أتخبط في شغفي و حنيني الى شيء لا افهمه لكني أحسه قريبا مني، الناس خرجوا من محلاتهم، السيارات توقفت واطل سائقوها منها، الناس ضحكوا على المجانين الرائعين: احنا في ايش وهم في ايش، الناس على حق لأنهم ببساطة لا يعرفون ماذا ا تعني كلمة مسرح، أنهم مشغولون في لقم العيش، المدارس في بلادنا تعتبر المسرح مثل الكافيار بالنسبة للفقراء، فهم لا يحتاجونه، فبإمكانهم العيش من دونه وكأن العيش هو أن نأكل ونشرب ونمارس الجنس ونتفرج على مسلسل السهرة لنذرف الدموع ونتطهر من ذنوبنا، المسرحيون على حق أيضا، فليس ذنبهم أنهم فهموا سر المسرح وأدركوا خطورته وأهميته في إنهاضنا من إعاقتنا الروحية، وهم يعرفون إن حب المسرح والإيمان به لا يتضارب مع كون محبيه فقراء، عادل الترتير فنان فقير ماديا، لكنه يعيش المسرح، يتنفسه، يمشيه، يرقصه، ينامه، يحلمه، أنا شخصيا لا استطيع أن افرق بين عادل الفنان وعادل الإنسان، حين أراه يمشي في الشارع، أقول في نفسي: انه يمثل دور شخص يمشي، وحين اضبطه غاضبا، أقول في سري: انه يمثل دور رجل غاضب، أما شاربه الأبيض الكثيف فارغب أحيانا في نزعه اعتقادا مني انه شارب مستعار، تطلبته شخصية ما في مسرحية ما.
كذلك حسين نخلة ابن أزقة الجلزون والعائش ردحا طويلا من السنين على حليب وكالة الغوث وزيت سمكه المرعب، وآخرون كثر لم تحل ظروفهم الاقتصادية من حب المسرح والثقة بقدرته على إيصالهم الى جزر معرفية وحسية ومتعوية، ضائعة في مهب ظلمات القارات الداخلية للإنسان.
قال لوتريامون مرة، بما معناه: إن على كل الناس أن يصبحوا روائيين،
تخيلوا لو أحب كل الناس المسرح، وتذوقوا ناره اللينة الحلوة، وجربوا أن يمثلوا شخصيات أخرى أمام أنفسهم، ان يكونوا غيرهم لدقائق، لماذا يخاف الناس من المسرح؟؟ وهو خوف رائع بالتأكيد ، لماذا أخاف أنا كثيرا من حضور مسرحية ما، ألانها تشبه يوم حساب مصغر؟؟ هل تعري عورتي، وتكشف ميلي الى غير المفهوم و المعتاد من المشاعر، تفضح رغباتي الغريبة، تزرع في دمي قشعريرة حب ومتعة لا تطاق حين تلامس فينا بقع الحنان والأمل واليأس والجنون والرعب ؟؟ هل أبدو ساذجا في خيالي هذا ؟؟ لأكن كذلك، لكني لن استوقف عن الحلم بصوت جدي الهرم وهو يقول لي ملحا: هيا نذهب الى عشتار أو القصبة فثمة مسرحية جديدة،
مسيرة المجانين ما زالت مستمرة، الآن وصلوا الى مسرح بلدية رام الله المهجور، الأعناق المستغربة الضاحكة المطلة من السيارات، تشكل خلفية مفرحة للوحة المسيرة، فهذا الانفصال بين وعي الناس العاديين والمسرحين يبدو أحيانا، مثيرا وباعثا على نشوة ما غير قابلة لتفسير، ولكن مهلا ألا يتناقض هذا مع رغبتي التي ذكرتها سابقا في تعميم حب المسرح؟؟ بالتأكيد لا، فانا اعلم تماما انه لن يصبح أبدا كل الناس روائيين ولا مسرحين
ولا شعراء، لكني احلم بذلك، وسأبقى احلم، لان في الحلم متعة لا تشبهها متعة أخرى، الحلم هنا هدف بحد ذاته، هدف لذيذ، ينتهي بتحققه.
تواصل المسيرة رقصها وغناءها، تتقدمها فرقة مسرح الشارع، أمام المجلس التشريعي، لم يكن احد باستقبالنا، وهذا طبيعي جدا لأنه لو كان احد باستقبالنا لكان هناك خلل، ثم إن المجلس مشغول بمنح الثقة لحكومة جديدة، ومن هؤلاء المجانين الذين يرقصون في ساحة المجلس؟ حتى يشوشوا على المجلس شغله ومشاغله؟؟ وهل الوقت وقت مسرح؟؟ ليذهب المسرح الى الجحيم، فلدينا وطن يحتضر وعلينا انقاذه.
واو
وطن يحتضر يريدون إنقاذه بأرواح معاقة ومعطلة؟!! أرواح لا تحب المسرح، كيف نحرر وطنا ونحن لا نتقن فن الرقص؟؟ كيف؟
تتحرك المسيرة الى مركز خليل السكاكيني، هذه المرة سأدخل، لن يقف شكل هذا المبنى المرعب كالعادة أمامي عائقا أمام حضور ندوات وعروض المركز الفنية والتشكيلية والأدبية، طالما خفت من الاحتكاك بهذا المكان، انه يشبه مكان اعتقال، أحس حين ادخله إني امضي الى محقق سيستجوبني بعد قليل عما أضعه في جيبي وعن شكل الطريق الى البيت، وعن ضحكة حبيبتي الأخيرة في الشارع وعن نمرة حذائي ولون جواربي، في القاعة الغريبة التي تقام فيها عادة الندوات اشعر أني محبوس في زنزانة، ومشرف على مرض جلدي، لا اعرف ما الذي كانته هذه القاعة قبل تحويلها الى قاعة ندوات وعروض، فالسقف واطئ جدا، هناك نوافذ غريبة منخفضة ومستطيلة؟ وهي ليست دائرية تماما، بل أشبه بمخروط دائري إن صح تعبيري، هل أهذي؟؟ ورغم أن محمود درويش وخليل السكاكيني موجودان هنا بحميمية كبيرة فالأول لدية مكتب في هذا المبنى والثاني سمي المبنى باسمه، إلا أنني لا أزال أخاف شكله وغرفه و درجاته ومن صعوبة الوصول فيه الى أي مكان،.ولأنني سكران تماما بهذه المسيرة الغريبة الطريفة، فقد نسيت أني في خليل السكاكيني، صعدت الى القاعة الأخيرة، الى مرضي الجلدي، الى زنزانتي، الى محققي، جلست بانتظار فقرات برنامج الاحتفال بيوم المسرح العالمي
لم أكن اعرف أن المرض الجلدي والمحقق والزنزانة سيختفون حين اسمع صوت ريم تلحمي وجميل السائح كانت ريم تجلس أمامي، تحمل بيدها كأس نسكافيه، فجأة نهضت مبتسمة، مشت بضع خطوات، جلست، خلعت وجهها البشري، رمت أطرافها، لبست وجه بحر وأطراف سمكة، مضت فينا الى الماء الأسود والحصان الغجري والطفل والأغنية، بعد عشر دقائق تقريبا، مدت يدها على وجهها، ألقت بالبحر وأطراف السمكة جانبا، لبست وجهها التقطت يديها وقدميها، ركبتهما على جسمها، نهضت عن الكرسي، جلست أمامي مرة أخرى، واصلت شرب النسكافيه،ابتسمت للمعجبين، لن أمارس دهشتي من جمال صوت ريم فلا جدال حول ذلك، لكن العجيب هو هذه الانتقالة المخيفة المجنونة بين عالمين مختلفين في عشر دقائق، لم افهم ما الذي يحدث، كأن حلما اختطفني الى براريه ومائه وصخره وطيوره وحممه، امرأة عادية تجلس أمامي بشعر غجري وملابس سوداء وكأس نسكافيه وابتسامة بشرية، فجأة يختفي كل ذلك و ينفجر بحر تحت الأقدام، بحر بأسماك كثيرة وملونة، طفل وحصان وماء اسود، وصوت اوبيرالي، يطيح بأنفاسنا عبر مهاوي قلاعنا، سقف السكاكيني يطير، يختفي المحققون، وتتحول الزنزانة الى عالم بلا أبواب او سقوف، بلا سجون، بلا سجانين، وتعود الكأس مرة أخرى تتمرجح بين أصابع عادية، وتجلس السمكة على كرسي مخلوع يحذرها المتفرجون من الكرسي، لكن السمكة لا تكترث، فثمة حارس يجلس خلفها هو دهشتي،
اترك مجانين المسرح، يغنون ويصيحون، اخرج الى الشارع، ويأتيني هاجس: المسرحيون ممثلين ومخرجين وراقصين قطاع أكثر شغفا وحبا للحياة و دفئا من الأدباء، والشعراء، انهم يتمتعون بحس للحرية اكبر في التعبير عن فرحهم وجنونهم، وهم طبيعيون تماما وحقيقيون، حركتهم جسدانية أكثر منها لغوية، كثيرا ما حضرت ندوات وأمسيات شعرية، لم أكن أجد فيها التحرر الجسماني والنفسي كما وجدته عند مجانين المسرح الفلسطيني، ثم ان الادعاء كثير في أمسيات الشعراء والتكلف واضح، والمعارك دائما جاهزة، وتنتظر شرارة ما، ولا احد يبتسم والأجساد دائما ساكتة ووحيدة ومكبوتة، وكأن الحزن أصبح ملمحا معتادا ومحببا للادباء،الى أين سأذهب الآن ؟؟
الى مقهى رام الله
سأخبر أصحابي عن مسيرة مجانين رائعين لا غضب فيها ولا رصاص
ولا شهداء
فهل سيصدقوني ؟؟
zkhadash@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: