الثلاثاء، 18 مارس 2008


مسرحية (عقد هيلين) قوة الرسالة ... ومتعة المشاهدة / بقلم: صالح اللداوي
التاريخ : 16 / 02 / 2008 الساعة : 17:41

إن تخرج من قاعة المسرح وأنت في قمة النشوة والاكتفاء…أن تغادر القاعة بعد العرض مجبرا… أن تحمل العرض معك إلى السيارة ثم إلى البيت… فلذلك كله معنى واحد فقط.. انك شاهدت عملا مسرحيا مكتملا… نصا وإخراجا وتمثيلا وتقنية... هذا ما خرجت به حينما غادرت قاعة المسرح الوطني بعد مشاهدة مسرحية (عقد هيلين) التي أنتجها المسرح الوطني بالتعاون مع مسرح لا باراكا الفرنسي .عن النص غريبة عنا هذه الصبية هيلين ... وضيفة في ديارنا ... تضع عقدا يجمل عنقها وحياتها معا... تفقد العقد وتعود أدراجها باحثة عنه في الأماكن التي زارتها فلا تجده... ولكنها تجد أناسا أضاعوا أشياء من حياتهم أغلى من عقد هيلين ... أضاعوا البيت والولد والوطن ... أضاعوا كل شيء... أضاعوا أنفسهم ... ولكنهم مازالوا يملكون الكثير... الكثير مما يجدوه والكثير مما يفعلوه.تنقلنا الكاتبة الكنديه كارول فريشيت إلى عوالم مختلفة من ورشة بناء إلى حي فقير إلى مخيم بائس وأمكنة أثرية بلغة شفافة كالكريستال... شاعرية مرهفة في النص وإنسانية منقطعة النظير وإيقاع لغوي فذ ... ليس هناك جملة مضافة أو جملة ناقصة... فالعرض حمل مقولة (ما بقى نقدر نعيش هيك) وعبر عنها وعن خدمتها طيلة فترات العرض وبات واضحا على المستوى النصي استحالة انفكاك الإيقاع عن مستواه الكلامي .عن الإخراج اقرب إلى السحر تلك العوالم التي حملنا إليها المخرج اللبناني (نبيل الأظن) من خلال سبعة جدران فقط ... سبع قطع من الجدار ولا شيء سوى الممثلين... أنت الآن في ورشة بناء تتحرك الجدران وكأنها قطع بيوت ثم هيلين تتوه أمام الجدار ثم ينقلنا إلى حي مكتظ تتحرك الجدران لترسم دائرة يصعب معها اكتشاف زاوية محددة ثم تضيق الجدران في المخيم إلى حد الاختناق ثم ترى الجدران أعمدة في موقع اثري وكأنك في سبسطية أو بعلبك .استطيع الجزم أن دقة النص وإيقاع الكتابة وحركة الجدران وجد تعبيرها في قدرة المخرج على صياغة شكل الأداء المسرحي وإيقاع الممثلين فبالرغم من الرتابة في المشاهد إلا أن حركة الإيقاع على الصعيد النصي والأدائي تشعرك بالغليان الداخلي للعمل المسرحي وهذا يدل على فهم المخرج العميق لمفهوم توتر العرض الدائم عن التمثيل.ازعم أنني اعرف معظم الممثلين... فالفنان حسام أبو عيشة وكذلك الفنان محمود عوض أصحاب تاريخ فني مشهود له وعليه.. والى حد بعيد اعتاد المشاهد منهم على أداء معين يبتعد ويقترب من عمل إلى آخر ولكن من يعرف حسام أبو عيشة يتفق معي انه قد تفوق على معظم أدواره في أدائه المحكم لشخصية المقاول... وهو البعيد كل البعد عن شخصية حسام الفنان والشخصيات المتعددة التي لعبها في مسرحيات سابقة والأمر ذاته ينطبق على محمود عوض الممثل الذي يطلق العنان لحركته وصوته وأدائه... كبلته الشخصية ولبسته فكأنها بجدارة .. غضب مكتوم وانكسار واضح واستكانة إجبارية. وريم تلحمي حديثة العهد في التمثيل متمرسة في الغناء أدت دور الأم الثكلى بطريقة غير معهودة في المسرح الفلسطيني من قبل ... فلا الحزن حزن مبتذل ولا النواح نواح مفتعل ولا اللطم المبالغ في بل هو الأم التي فقدت قطعة منها وتلك القطعة ليست عقدا ولا إسورة بل ولدها فلذة كبدها فهي مجنونة بالفقدان.صالح البكري بالرغم من قلة حضوره بالمسرح الفلسطيني إلا أن من شاهده في العرض قال هذا الشبل من ذاك الأسد فهو ابن الفنان محمد بكري ولكن هذا لا يكفي فدور السائق الذي لعبه كان اقصر الأدوار ولكن فهمه للدور وأهميته تثبت له ولنا انه لا يوجد دور كبير ودور صغير بل يوجد فنان كبير وفنان صغير والبكري الصغير كان كبيرا في حضوره. أما الفنان الصاعد داود طوطح فكانت تجربته جيدة وصعبة فهو يقف أمام الخبراء على المسرح لكنه يتمتع بروح التحدي وكان اختياره لأداء دور السنتواري المتجول اختيارا موفقا لخفة ظله وحركته أمام ثقل الشخصيات الأخرى ولا اقصد الممثلين بالطبع.تعمدت تأخير الحديث عن الممثلة الفرنسية ميراي روسيل التي لعبت دور السائحة الفاقدة لعقدها ... إني لا اعرفها كما اعرف من سبقها من زملائها الفنانين الفلسطينيين لذا سنتحدث عن تلك السندريلا الضائعة التي أضاعت عقدها وضاعة معه فعندما انفرط العقد وضاع انفرطت معه هيلين وضاعت وعادت أدراجها تبحث عنها وعنه فالعقد هي ... إننا نقف أمام ممثلة مرهفة الإحساس تعيش المتغيرات التي تطرأ عليها لحظة بلحظة ... فهيلين تتقاذفها الأمواج من صدمة إلى أخرى فمن ذلك المقاول الذي لا يعرف للمشاعر طريقا ولا للتضامن معنا رجل منهمك في بناء ما تهدم ... فجل ما قاله لها (حلو عنا) ثم الم الثكلى التي تقول لها (ما تقوليش انك زعلانة على ابني لأني أنا كمان مش زعلانة على عقدك ) ثم لطمة أخرى من الرجل الذي فقد مكانه على الأرض ( قليها... ما بقى نقدر نعيش هيك) وهي الجملة التي تنهي المسرحية .التقنيات لا شارع ولاحي قديم ولا مخيم ولا آثار تاريخية ولا حتى تكسي سبعة جدران وستة ممثلين إنها التقنية العالية الدقة هي التي استحضرت الزمان والمكان إلى جانب النص والتمثيل فأضائة رمزي قاسم وموسيقى حبيب شحادة وديكور سيسيل وعماد سماره وفيديو عبد السلام عبده وترجمة نجوى مباركي كلها عناصر لا أقول مساعدة أبدا بل أساسية في رسم المكان والزمان وفي تصوير اللحظة والإحساس لدا الممثل والمشاهد معا وهذا ما نقل المسرحية من (مسرحية عادية ) إلى (مسرحية راقية مكتملة ) ... إنها وبحق مدرسة في التمثيل والإخراج والنص والتقنية .فتحية إلى كل من ساهم في إنجاح هذا العمل المسرحي الكبير شخوصا ومؤسسات . : القدس

ليست هناك تعليقات: