الثلاثاء، 18 مارس 2008


حين تتجاور الضياعات البسيطة والكبيرة تنفجر الاسئلة
عقد هيلين علي مسرح القصبة الفلسطيني:
كتب: زياد خداش

انها تحلم، تحلم، هكذا قلت لنفسي همسا، فهذه مونودراما، اما الممثلون الاخرون، السائق، ام الشهيد، المقاول، الرجل الستيني، فما هم سوي اشخاص ابتكرتهم هيلين الفرنسية، الم نشاهدهم يدورون حول المرايا ذلك الدوران الخافت والضبابي؟

كانوا بالفعل يدورون في ذهنها، كانت هي تقف في مركز المسرح، في وسط ذهنها المتعب والانساني، اما هم فقد وزعتهم علي اطراف ذهنها، تستدعيهم وقتما تشاء، تتحدث معهم، تعذب نفسها بهم ، تكتشف عارها وفقر عالمها وندوب روحها امامهم،هل كنا نحن الجمهور حلما في رأسها ايضا، اخترعتنا السيدة لترتاح؟ هل حلمناها، لنهديء من شعورنا بالخوف والعزلة والوحدة في عالم ظالم لا ينتبه لآلام الاخرين؟؟

مرة حلمت اننا نحلم محمود درويش وانه ظاهرة ممتعة مهدئة، و كبيرة تعيش فقط في اذهاننا، نتخيلها ونعيشها لاننا بلا بطولات وبلا فرسان او رموز ، لماذا تفعل هيلين كل ذلك؟ التخفف من قسوة احساسها بالمسؤولية عن عذابات وطن ضائع؟ ما سر اهتمامها بالموضوع؟ فالوطن ليس وطنها والشعب ليس شعبها، لم لا تعود الي بلادها حيث كل الاشياء مكتملة ومستقرة ومنطقية؟، نحن اذن امام انسانة، انسانة بمعني الكلمة، تفتش عن صورتها في جراح الاخرين، الاخرين الذين هم بشر مثلها،

يا ليت كلمة الانتفاضة لم تذكر في المسرحية، لانها حددت المشهد باطار جغرافي وسياسي، وحشرت الصورة في قضية ارضية صغيرة اسمها فلسطين، كان يجب ان تستبدل الانتفاضة بكلمة حرب، حتي يتوسع المفهوم، حي تنطبق الحالة علينا وعلي الاخرين، تخيلوا عرضا لهذه المسرحية في الارجنتين، الارجنتينيون سيفهمون فورا انها تتحدث عن فلسطين، وهذا يخفض سقف المسرحية هذا لا يعني بالطبع ان كل كتابة او دراما عن فلسطين تخفض من مستوي الفن لكننا تعودنا ان تقترن هذه بتلك وبانتظار من يثبت عكس ذلك هناك بالطبع من اثبت ذلك ولكنهم قلة وسط قاعدة كبيرة استخدمت فلسطين استخداما رديئا واساءت بذلك للفن ولفلسطين معا ، ويضيق افقها، وتصبح اقرب الي التباكي والتحريض وممارسة الانين و الحسرة والاستمتاع بكوننا ضحية دائمة وطلب الشفقة،

وهذه مفردات مسرحنا الفلسطيني المعهود والمكرر، هذا ليس مطلوبا ولا منتظرا فقد شبعنا استعراضا واسترحاما لعالم فظ وغير مبال، لا يحدث هذا لو كان هناك اطار انساني اوسع، لو كانت الحرب هي التي اختطفت طفل الام، لأحس الارجنتيني ان ابنه نفسه هو الذي خطف، فقد عاش هو اجواء الحرب وما يستتبعها من مآس وموت ودمار وفقدان. الفكرة في المسرحية عالية الفضاء و تحتمل ابعد من ذلك من تحليق، فكرة ان تضيع اشياؤنا الصغيرة في بلاد كل شيء فيها ضائع، او في عالم كل شيء فيه ضائع،

الضياع نسبي جدا في عالمنا، فمنا من يضيع قلمه او قبعته ، ومنا من يضيع ابنه او عائلته او طنه او عمره اوعقله، وحين تتجاور الضياعات البسيطة والكبيرة نشعر بضحكة ساخرة لكنها دموية،مبحوحة ممزوجة بدمعة مالحة، ساخنة تخترق كياننا، فتهتز ارواحنا وتزورنا قشعريرة الاسئلة، وهذا ما سبب لنا هذا الانبهار الجميل والتفكير العنيف، في المسرحية التي كان يجب كما اري ان تنزاح اكثر عن المتوقع منها، هناك مستوي اعلي كان يجب الحفر فيه، ثمة ارتفاع تم التضحية به من اجل انخفاض معين لقضية صغيرة تحدث في العالم دائما، ثمة مستوي وجودي عميق ومغر للتأمل، في فضاء الضياعات، يشبه الامر ان نذهب الي ميت ونهزه قائلين: ببراءة ام ببلاهة: هل رأيت امرأة تمر من حقلك؟ انها زوجتي وانا ابحث عنها، او ان نقرأ شعرا وسط جثث متفحمة، او نسأل رجلا اعمي: فقدت محفظتي، هل رأيتها؟.

يا لها من منطقة تفكير مثيرة للانفعال والحيرة والارتجاج والاسئلة، تلك التي كانت تدور فيها السيدة الفرنسية فاقدة عقدها، اسمع هنا صوت شخص يحتج علي ما اقول سائلا بحنق: هل تريد ان تأتي الينا السيدات الفرنسيات الجميلات ليمارسن في بلادنا المنكوبة وطنيا وانسانيا، اسئلتهن الكونية والوجودية؟

هل انت مجنون؟ اجيبه: نعم صديقي انا مجنون، لاني ابحث عن غير المتوقع في المتوقع دائما، لاننا اتخمنا بالندب والتفعفل في الارض موتا ولطما وألما، اشتاق الي ان نرقص ونحب ونسافر ونكتب عن الوحش الذي فينا، والظلمة التي تعيشنا، كما اشتاق الي من يصدم ذاكرتي ويخلخل يقيني، ويلامس روح العالم في روحي، ويبعدني عني، ليس هربا من معالجة قضاياي او يأسا منها او استسلاما لواقع او ممارسة لرفاهية مضحكة، بل بحثا عن انسايتني واحلامي وعبثي وغرابتي وشكوكي، او باختصار كبير تفتيشا عن نمرة الفن، نمرة الفن التي تأبي الخضوع للقولبة او التكرار او التسطيح، او الخطابة والهتاف.

هل تسمحون لي هنا بسؤال مكرر كبير : لماذا تقترن دائما الاعمال المسرحية التي تعالج هما وطنيا او اجتماعيا بالتسطيح والتكرار وضيق الافق وقصر النظر؟؟، لماذا لا نجد مسرحا محليا يعلو بالهموم الارضية الفلسطينية الي ذري وآفاق الفن الانساني؟، لماذا نعجز عن ربط الخاص بالعام وهذا بالمناسبة ينطبق علي الادب والشعر تحديدا، درويش نجح بقوة في التخلص من ورطة الارضي المقرون بالتسطح، اخذنا الي قمم الشعر الانساني منطلقا من خصوصيتنا.

هيا نعود للموضوع، وهل خرجنا عنه؟. هيلين فتاة فرنسية تزور بلادنا كسائحة، يضيع عقدها الجميل والشفاف في مكان ما، اثناء تفتشيها عنه تفاجأ بوطن كبير ضائع، اناس ضائعين، كل يبحث عن بيته او طفله او عمره او ضحكته، تخجل هيلين، حين تقارن بين ما ضاع منها وما تراه امامها، فترتاح، لانها خجلت، فهذا يعني اكتشافها انسانيتها، نقطة ضعف المسرحية الوحيدة هي تورطها الخفيف في اليومي والسائد والمتوقع، اقول تورطها الخفيف، لان المسرحية لم تقع وقعة كبري في هذا المطب، وحافظت علي جماليات العرض المسرحي بشكل فاتن، الخبثاء هنا سيسألون: هل اصبحنا مكانا او مادة يغسل بها الآخرون ذنوبهم؟ . وسأرد عليهم واقول كما قلت لمن يتهم الاسرائيليين التقدميين بنفس التهمة: كل من يقف بجانب ألمي فهو صديقي وانا احترمه، نحن نقف ونتعاطف مع قضايا البوسنة ودارفور وافغانستان، هل يعني هذا انني اغسل ذنبي هناك؟ وما هو ذنبي؟ ما ذنب الفرنسية هيلين هنا؟ هل مجرد كونها اخري يعطينا حق الشك فيها، وفي دوافع وقوفها بجانب عذابنا؟؟.

ما سر المرايا المتجاورة في المسرحية،؟ هل هي الضياعات نفسها؟ متنكرة في شكل مرايا؟

الاضاءة كانت موسيقي والموسيقي كانت اضاءات، لماذا احسست ان كل شيء أعار قسما منه للاخر؟. أجمل ما في هذه المسرحية هو شاعريتها، تدفقها الخفيف وحركتها الناعمة المتأنية، قربها من كونها كتاباً او رقصة حزن دموية، او حديثاً ليلياً خاصاً علي شرفة حنين او موت، او لوحة ضياع تتغير فيها الوجوه والاشياء، وتحافظ فقط علي لون واحد هو الازرق، فالزرقة هي ابنة هذا العمل، لحمته وسداه، افقه، دمه، نسيجه، الزرقة هنا هي الحلمية الرجراجة العالية، اللعنات الواقفة علي بابنا تنتظر خطفنا، الخطورة الكامنة في المرايا، وفي الدوران الصوفي حولها، شراسة الشرط الموضوعي امام بساطة حاجات الانسان. غياب منطق العدالة بشكل مخيف.

اداء الممثلين المحلوم بهم ، كان قويا، لا انفعال زائداً، لا تهريج، حركة الاجساد كانت تقول كثيرا ما تتطلبه منها المشاهد، علي اعتبار ان الاشخاص مخترعون ويمشون بغموض في رأس بشري متعب وحائر وماكر ايضا، صالح البكري جسد حلمية المسرحية في جسد وروح السائق، بمشيه البطيء ونظرته الثابتة وابتسامته المحددة، وكلامه المتقشف، كنت احب لو استمر غموضه حتي نهاية المسرحية، فانفتاحه علي الكلام في آخر المشاهد اضر بالمستوي الحلمي الذي علا به في داخلنا، كلامه الاخير الموجه الي هيلين انزله الي الارض، وورطه في الخطابة، كان علي المشاهد ان يؤول شخصية السائق، ويأخذه الي داخله، اعماقه، هواجسه، يصنعه ويقلبه ويتعمق به ويستجوبه هناك كيفما يريد. كان اداء صالح البكري مبهرا، فهذا الفنان الفلسطيني الشاب، ذو الـ 24 عاماً، جسد بذكاء كبير، وهدوء فاتن، وحساسية عالية، بمشاهد متقطعة وصغيرة حلما ضبابيا مشوشا في عقل انساني مهجوس بالتشتت والضياع.

محمود عوض: لا يتوقف هذا الفنان صاحب الصوت القريب من الروح عن ادهاشنا، كلما شاهدت هذا الرجل تساءلت؟ اين رأيت هذا الوجه؟

اما ريم تلحمي فهي تثبت هنا مرة اخري مقدرتها الكبيرة علي تجسيد دور المراة المتألمة والفرحة ففي صوتها وروحها مساحة كبيرة للتنوع والتأويل والتقمص، الألم ينز من صوتها، حين تريده، كما تتقاطرالبهجة منها حين تريدها، لكن هيئتها الانيقة آذت حقيقة شخصية الام شبه المجنونة التي تبحث عن ابنها القتيل،

حسام ابو عيشة: لا يتركنا كما عودنا دون ان نحبه ونعجب بعفويته وخفته وقوة حضوره، كل حركة يتحركها تلفت انتباهنا، كل نظرة منه تخطفنا، في كل مكان نراه، بائعا للخضار، او اكاديميا في جامعة، او طبيبا في عيادة، وابا ثاكلا وتاجرا ثريا،

اما الفرنسية روسيل هيلين ، فهي الجبل الذي ركضت في انحائه احصنة المسرح، هي الشعاع المركزي، الذي انار الاطراف، هي قوة الفكرة وذكاء التخييل، هي الرأس الذي حلم، والروح التي انتثرت ألما، اداؤها يدل علي خبرة كبيرة، وذكاء،

نسيت ان اقول لكم ان هيلين حلمت بمخرج للمسرحية هو نبيل الاظن، فرنسي من اصل لبناني، هل نشكره؟ طبعا فقد لبي نداءها وجاءها من اقصي الحلم ليساعدها علي تحقيق حلمها، وفاجأها بما لم تتوقعه، احسست في لحظة ما ان نبيل هو الذي حلم بكل ما ذكرنا حتي انه حلم بي واستدعاني لاكتب روعته وفتنة اخراجه، الغريب ان روسيل اخترعت ايضا مؤلفة كندية للمسرحية، اسمتها: كارول فرشت. وحلمت ايضا مؤسسة ثقافية طليعية هي مسرح الحكواتي لتشرف علي انتاجها، بعد عرض المسرحية بيوم ، تحدثت مع صديقي خالد عليان، مدير مسرح وسينماتك القصبة، فاستغرب الموضوع ضاحكا: ان القصبة لم تعرض مسرحية بهذا الاسم، وانني قد اكون حلمت بالمسرحية. الهي هل حلمت بكل هذا الضياع الفاتن؟.

كاتب من فلسطين
zkhadash@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: