
ميلر على خشبة المسرح الفلسطيني
بقلم خليل أبو عرفة
2007-06-04
قام فريق العمل المسرحي الفلسطيني بإعداد مسرحية جريئة ومعبرة عرضها على خشبة المسرح الفلسطيني في أواسط الشهر الحالي، حازت على إعجاب الحضور، واستدرت دموعهم، (وقد كنت واحداً منهم)، وذلك لعمق أفكارها، وبراعة الأداء فيها، ولإيحاءاتها الغنية، ولبعدها الإنساني. أفكار المسرحية كانت أميركية يسارية، والإخراج أميركي ـ فلسطيني مشترك.
كان هناك الكثير من نقاط الالتقاء بين عناصر مسرحية «كلهم أبنائي» للكاتب آرثر ميلر، والواقع الفلسطيني المحلي، المشاعر الإنسانية البسيطة أولاً، ووحدة الرؤى ما بين كاتب أميركي يحاول تفكيك لغز النظام، ويحارب بالكلمة سياسة دولته التوسعية المستندة على صناعة الحرب، وما بين شعب مقهور، يكافح في سبيل حريته ويعاني من سياسة الدولة الأميركية ذاتها، والذي هو شعبنا.
معاناة الضحايا
تمحورت المسرحية حول رجل أعمال كبير (جو)، يؤدي دوره في المسرحية الفنان محمود عوض ـ يملك مصنعاً لقطع غيار الطائرات الحربية في ديترويت، (للدلالة على المجمعات الصناعية الحربية التي تتحكم بالسياسة الأميركية)، يتورط في قضية فساد، تتلخص في بيع قطع غيار تالفة للجيش الأميركي، تتسبب لاحقاً بسقوط إحدى وعشرين طائرة حربية ومقتل طياريها.
إن ما أعطى قضية الفساد هذه بعدها التراجيدي هو أن من بين الطيارين القتلى كان أحد أبناء رجل الأعمال، وعلى الرغم من تعرض (جو) للمساءلة والسجن لفترة بسيطة من الوقت، بعد انكشاف دوره وتسببه في كارثة مقتل الطيارين، إلا أن الشعور بالذنب يظل يلاحقه إلى أن يقوم بوضع حد لحياته بنفسه.
لقد وقع (جو) في تناقض وجودي مرتين: لم يكن قادراً على الاعتذار عن صفقة العمر، فالإغراء كبير، كما أن المصنع بحاجة إلى هكذا صفقة كي يستمر في الإنتاج، وإلا فهو معرض للإفلاس. عند انكشاف دور (جو) في قضية الفساد، والتي تحولت إلى كارثة وطنية فيما بعد، لم يعد قادراً على الصمود في محنة الشعور بالذنب. فالكارثة هنا أخذت بعداً شخصياً، والضحية هو (لاري) ابن (جو)، وليس رقماً عادياً من أرقام الضحايا التي يتم التطرق إليها في الكوارث الجوية في نشرات الأخبار.
آرثر ميلر كاتب المسرحية، كان قد تعرض للملاحقة السياسية في دولته بسبب مواقفه الجريئة الناقدة الحادة وكان نفسه من ضحايا سياسة «المكارثية» القمعية التي عانى منها رجال الفكر وأصحاب الرأي المعارض في المجتمع الأميركي في أربعينيات القرن المنصرم. الآن يثبت ميلر، (توفي قبل عامين)، بأنه سبق عصره، وان الاعتبار الذي يعاد له الآن هو تعويض عن الشعور بالذنب تجاه هذا الكاتب والمفكر الإنساني المبدع.
أكثر من بعد إنساني
البعد السياسي كان «خلفية» في العمل المسرحي، فقد كان البعد الإنساني هو الطاغي والمسيطر. فما كان يشد المشاهد هو مشاعر الألم الصادقة (ريم تلحمي)، المحروق قلبها على ابنها «المفقود» فهي، وكأي أم أخرى في الدنيا، لن تصدق أن ابنها (لاري) قتل، وانه لن يعود، طالما لم تر جثته، لا تنام الليل، ولا تتردد كذلك في اللجوء إلى جارها العراف (عدنان أبو سنينه)، الذي يبرع في منح الأم سراب أمل ضائع من فترة إلى أخرى.
وكذلك مشاعر خطيبة لاري (تؤدي الدور شادن الزماميري) الممزقة بين الوفاء لخطيبها، على الرغم من تأكدها من مقتله، من خلال رسالته الأخيرة لها، والتي يخبرها فيها بعلمه بفضيحة قطع الغيار التالفة وتورط والده فيها، وبين تعاطفها مع والدها السجين بتهمة الفساد ذاتها، وهو الشريك في مصنع قطع الغيار ذاته، وعاطفتها الجديدة تجاه (كريس)، شقيق لاري، (يؤدي دوره الفنان المبدع مروان عوض).
عكس الممثلون روح المسرحية، (أو هي روح ميلر؟) بأداء مميز، عكسوا روح السخرية اللاذعة، والسوداء أحياناً وانغمسوا في أدوارهم إلى درجة البكاء، ريم تلحمي التي بكت وأبكت الحضور معها.
كان التحدي الأبرز في هذا العمل هو عدم الوقوع في «فخ التغريب»، إذا جاز التعبير، وهو الفخ الذي تقع فيه معظم الأعمال المسرحية المترجمة إلى العربية، حيث يظل المشاهد، عادة، ضحية فجوة عميقة تفصل ما بين النص وروحه الأجنبية وما بين الواقع المحلي. وبرأيي فإن هذا العمل قد تجاوز هذه الفجوة بنجاح، ولعل ما ساعد على ذلك التعاون الفني المخلص بين المخرج الأميركي ألين ناوس والمخرج الفلسطيني كامل الباشا.يشار إلى أن المسرحية من تمثيل: عدنان ابو سنينة، سوزان زعبي، محمود عوض، الطفل محمد عوض، مروان عوض، ريم تلحمي، شادن الزماميري وعماد مزعرو.
بقلم خليل أبو عرفة
2007-06-04
قام فريق العمل المسرحي الفلسطيني بإعداد مسرحية جريئة ومعبرة عرضها على خشبة المسرح الفلسطيني في أواسط الشهر الحالي، حازت على إعجاب الحضور، واستدرت دموعهم، (وقد كنت واحداً منهم)، وذلك لعمق أفكارها، وبراعة الأداء فيها، ولإيحاءاتها الغنية، ولبعدها الإنساني. أفكار المسرحية كانت أميركية يسارية، والإخراج أميركي ـ فلسطيني مشترك.
كان هناك الكثير من نقاط الالتقاء بين عناصر مسرحية «كلهم أبنائي» للكاتب آرثر ميلر، والواقع الفلسطيني المحلي، المشاعر الإنسانية البسيطة أولاً، ووحدة الرؤى ما بين كاتب أميركي يحاول تفكيك لغز النظام، ويحارب بالكلمة سياسة دولته التوسعية المستندة على صناعة الحرب، وما بين شعب مقهور، يكافح في سبيل حريته ويعاني من سياسة الدولة الأميركية ذاتها، والذي هو شعبنا.
معاناة الضحايا
تمحورت المسرحية حول رجل أعمال كبير (جو)، يؤدي دوره في المسرحية الفنان محمود عوض ـ يملك مصنعاً لقطع غيار الطائرات الحربية في ديترويت، (للدلالة على المجمعات الصناعية الحربية التي تتحكم بالسياسة الأميركية)، يتورط في قضية فساد، تتلخص في بيع قطع غيار تالفة للجيش الأميركي، تتسبب لاحقاً بسقوط إحدى وعشرين طائرة حربية ومقتل طياريها.
إن ما أعطى قضية الفساد هذه بعدها التراجيدي هو أن من بين الطيارين القتلى كان أحد أبناء رجل الأعمال، وعلى الرغم من تعرض (جو) للمساءلة والسجن لفترة بسيطة من الوقت، بعد انكشاف دوره وتسببه في كارثة مقتل الطيارين، إلا أن الشعور بالذنب يظل يلاحقه إلى أن يقوم بوضع حد لحياته بنفسه.
لقد وقع (جو) في تناقض وجودي مرتين: لم يكن قادراً على الاعتذار عن صفقة العمر، فالإغراء كبير، كما أن المصنع بحاجة إلى هكذا صفقة كي يستمر في الإنتاج، وإلا فهو معرض للإفلاس. عند انكشاف دور (جو) في قضية الفساد، والتي تحولت إلى كارثة وطنية فيما بعد، لم يعد قادراً على الصمود في محنة الشعور بالذنب. فالكارثة هنا أخذت بعداً شخصياً، والضحية هو (لاري) ابن (جو)، وليس رقماً عادياً من أرقام الضحايا التي يتم التطرق إليها في الكوارث الجوية في نشرات الأخبار.
آرثر ميلر كاتب المسرحية، كان قد تعرض للملاحقة السياسية في دولته بسبب مواقفه الجريئة الناقدة الحادة وكان نفسه من ضحايا سياسة «المكارثية» القمعية التي عانى منها رجال الفكر وأصحاب الرأي المعارض في المجتمع الأميركي في أربعينيات القرن المنصرم. الآن يثبت ميلر، (توفي قبل عامين)، بأنه سبق عصره، وان الاعتبار الذي يعاد له الآن هو تعويض عن الشعور بالذنب تجاه هذا الكاتب والمفكر الإنساني المبدع.
أكثر من بعد إنساني
البعد السياسي كان «خلفية» في العمل المسرحي، فقد كان البعد الإنساني هو الطاغي والمسيطر. فما كان يشد المشاهد هو مشاعر الألم الصادقة (ريم تلحمي)، المحروق قلبها على ابنها «المفقود» فهي، وكأي أم أخرى في الدنيا، لن تصدق أن ابنها (لاري) قتل، وانه لن يعود، طالما لم تر جثته، لا تنام الليل، ولا تتردد كذلك في اللجوء إلى جارها العراف (عدنان أبو سنينه)، الذي يبرع في منح الأم سراب أمل ضائع من فترة إلى أخرى.
وكذلك مشاعر خطيبة لاري (تؤدي الدور شادن الزماميري) الممزقة بين الوفاء لخطيبها، على الرغم من تأكدها من مقتله، من خلال رسالته الأخيرة لها، والتي يخبرها فيها بعلمه بفضيحة قطع الغيار التالفة وتورط والده فيها، وبين تعاطفها مع والدها السجين بتهمة الفساد ذاتها، وهو الشريك في مصنع قطع الغيار ذاته، وعاطفتها الجديدة تجاه (كريس)، شقيق لاري، (يؤدي دوره الفنان المبدع مروان عوض).
عكس الممثلون روح المسرحية، (أو هي روح ميلر؟) بأداء مميز، عكسوا روح السخرية اللاذعة، والسوداء أحياناً وانغمسوا في أدوارهم إلى درجة البكاء، ريم تلحمي التي بكت وأبكت الحضور معها.
كان التحدي الأبرز في هذا العمل هو عدم الوقوع في «فخ التغريب»، إذا جاز التعبير، وهو الفخ الذي تقع فيه معظم الأعمال المسرحية المترجمة إلى العربية، حيث يظل المشاهد، عادة، ضحية فجوة عميقة تفصل ما بين النص وروحه الأجنبية وما بين الواقع المحلي. وبرأيي فإن هذا العمل قد تجاوز هذه الفجوة بنجاح، ولعل ما ساعد على ذلك التعاون الفني المخلص بين المخرج الأميركي ألين ناوس والمخرج الفلسطيني كامل الباشا.يشار إلى أن المسرحية من تمثيل: عدنان ابو سنينة، سوزان زعبي، محمود عوض، الطفل محمد عوض، مروان عوض، ريم تلحمي، شادن الزماميري وعماد مزعرو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق